فصل: قال ابن عاشور:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال القرطبي:

قوله: {لاَ تُفْسِدُواْ} لا نهي.
والفساد ضدّ الصلاح، وحقيقته العدول عن الاستقامة إلى ضدّها.
فَسَد الشيء يَفْسِدُ فَسادًا وفُسودًا وهو فاسد وفِسيد.
والمعنى في الآية: لا تُفسدوا في الأرض بالكفر وموالاة أهله، وتفريق الناس عن الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم والقرآن.
وقيل: كانت الأرض قبل أن يبعث النبيّ صلى الله عليه وسلم فيها الفساد، ويفعل فيها بالمعاصي؛ فلما بُعث النبيّ صلى الله عليه وسلم ارتفع الفساد وصلحت الأرض.
فإذا عملوا بالمعاصي فقد أفسدوا في الأرض بعد إصلاحها؛ كما قال في آية أخرى: {وَلاَ تُفْسِدُواْ فِي الأرض بَعْدَ إِصْلاَحِهَا} [الأعراف: 56]. اهـ.

.قال ابن عاشور:

يظهر لي أن جملة {وإذا قيل لهم} عطف على جملة {في قلوبهم مرض} [البقرة: 10]؛ لأن قوله: {وإذا قيل لهم لا تفسدوا في الأرض قالوا إنما نحن مصلحون} إخبار عن بعض عجيب أحوالهم، ومن تلك الأحوال أنهم قالوا {إنما نحن مصلحون} في حين أنهم مفسدون فيكون معطوفًا على أقرب الجمل الملظة لأحوالهم وإن كان ذلك آيلًا في المعنى إلى كونه معطوفًا على الصلة في قوله: {من يقول آمنا بالله} [البقرة: 8].
وإذا هنا لمجرد الظرفية وليست متضمنة معنى الشرط كما أنها هنا للماضي وليست للمستقبل وذلك كثير فيها كقوله تعالى: {حتى إذا فشلتم وتنازعتم في الأمر} [آل عمران: 152] الآية.
ومن نكت القرآن المغفول عنها تقييد هذا الفعل بالظرف فإن الذي يتبادر إلى الذهن أن محل المذمة هو أنهم يقولون {إنما نحن مصلحون} مع كونهم مفسدين، ولكن عند التأمل يظهر أن هذا القول يكون قائلوه أجدر بالمذمة حين يقولونه في جواب من يقول لهم {لا تفسدوا في الأرض} فإن هذا الجواب الصادر من المفسدين لا ينشأ إلا عن مرض القلب وأفن الرأي، لأن شأن الفساد أن لا يخفى ولئن خفي فالتصميم عليه واعتقاد أنه صلاح بعد الإيقاظ إليه والموعظة إفراط في الغباوة أو المكابرة وجهل فوق جهل.
وعندي أن هذا هو المقتضى لتقديم الظرف على جملة {قالوا} لأنه أهم إذ هو محل التعجيب من حالهم، ونكت الإعجاز لا تتناهى. اهـ.
قال الفخر:
الذين قالوا: {إنما نحن مصلحون} هم المنافقون، والأقرب في مرادهم أن يكون نقيضًا لما نهوا عنه، فلما كان الذي نهوا عنه هو الإفساد في الأرض كان قولهم: {إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ} كالمقابل له، وعند ذلك يظهر احتمالان:
أحدهما: أنهم اعتقدوا في دينهم أنه هو الصواب، وكان سعيهم لأجل تقوية ذلك الدين، لا جرم قالوا: إنما نحن مصلحون، لأنهم في اعتقادهم ما سعوا إلا لتطهير وجه الأرض عن الفساد.
وثانيهما: أنا إذا فسرنا {لاَ تُفْسِدُواْ} بمداراة المنافقين للكفار فقولهم: {إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ} يعني به أن هذه المداراة سعي في الإصلاح بين المسلمين والكفار، ولذلك حكى الله تعالى عنهم أنهم قالوا: {إِنْ أَرَدْنَا إِلاَّ إِحْسَانًا وَتَوْفِيقًا} [النساء: 62] فقولهم: {إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ} أي نحن نصلح أمور أنفسنا.
واعلم أن العلماء استدلوا بهذه الآية على أن من أظهر الإيمان وجب إجراء حكم المؤمنين عليه، وتجويز خلافه لا يطعن فيه، وتوبة الزنديق مقبولة والله أعلم. اهـ.
قال ابن عاشور:
والقائل لهم {لا تفسدوا في الأرض} بعض من وقف على حالهم من المؤمنين الذين لهم اطلاع على شئونهم لقرابة أو صحبة، فيخلصون لهم النصيحة والموعظة رجاء إيمانهم ويسترون عليهم خشية عليهم من العقوبة وعلمًا بأن النبي صلى الله عليه وسلم يغضي عن زلاتهم كما أشار إليه ابن عطية.
وفي جوابهم بقولهم: {إنما نحن مصلحون} ما يفيد أن الذين قالوا لهم {لا تفسدوا في الأرض} كانوا جازمين بأنهم مفسدون لأن ذلك مقتضى حرف إنما كما سيأتي ويدل لذلك عندي بناء فعل قيل للمجهول بحسب ما يأتي في قوله تعالى: {وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا} [البقرة: 8] ولا يصح أن يكون القائل لهم الله والرسول إذ لو نزل الوحي وبلغ إلى معينين منهم لعلم كفرهم ولو نزل مجملًا كما تنزل مواعظ القرآن لم يستقم جوابهم بقولهم: {إنما نحن مصلحون}.
وقد عَنَّ لي في بيان إيقاعهم الفساد أنه مراتب:
أولها: إفسادهم أنفسهم بالإصرار على تلك الأدواء القلبية التي أشرنا إليها فيما مضى وما يترتب عليها من المذام ويتولد من المفاسد.
الثانية: إفسادهم الناس ببث تلك الصفات والدعوة إليها، وإفسادُهم أبناءهم وعيالهم في اقتدائهم بهم في مساويهم كما قال نوح عليه السلام: {إنك إن تذرهم يضلوا عبادك ولا يلدوا إلا فاجرا كفارا} [نوح: 27].
الثالث: إفسادهم بالأفعال التي ينشأ عنها فساد المجتمع، كإلقاء النميمة والعداوة وتسعير الفِتَن وتأليب الأحزاب على المسلمين وإحداث العقبات في طريق المصلحين.
والإفساد فعل ما به الفساد، والهمزة فيه للجَعْل أي جعل الأشياء فاسدة في الأرض.
والفساد أصله استحالة منفعة الشيء النافع إلى مضرة به أو بغيره، وقد يطلق على وجود الشيء مشتملًا على مضرة، وإن لم يكن فيه نفع من قبل يقال فسد الشيء بعدَ أن كان صالحًا ويقال فَاسِد إذا وُجد فاسدًا من أول وَهلة، وكذلك يقال أفسد إذا عمَد إلى شيء صالح فأزالَ صلاحه، ويقال أفسَد إذا أَوْجد فسادًا من أول الأمر.
والأظهر أن الفساد موضوع للقدر المشترك من المعنيين وليس من الوضع المشترك، فليس إطلاقه عليهما كما هنا من قبيل استعمال المشترك في معنييه.
فالإفساد في الأرض منه تصيير الأشياء الصالحة مضرة كالغش في الأطعمة، ومنه إزالة الأشياء النافعة كالحَرق والقتل للبراء، ومنه إفساد الأنظمة كالفِتن والجور، ومنه إفساد المساعي كتكثير الجهل وتعليم الدعارة وتحسين الكفر ومناوأة الصالحين المصلحين، ولعل المنافقين قد أخذوا من ضروب الإفساد بالجميع، فلذلك حُذف متعلق {تفسدوا} تأكيدًا للعموم المستفاد من وقوع في حَيز النفي.
وذُكِر المحل الذي أفسدوا ما يَحْتوي عليه وهو الأرضُ لتفظيع فسادهم بأنه مبثوث في هذه الأرض لأن وقوعه في رقعة منها تشويه لمجموعها.
والمراد بالأرض هذه الكرة الأرضية بما تحتوي عليه من الأشياء القابلة للإفساد من الناس والحيوان والنبات وسائر الأنظمة والنواميس التي وضعها الله تعالى لها، ونظيره قوله تعالى: {وإذا تولى سعي في الأرض ليفسد فيها ويُهلك الحرث والنسل والله لا يحب الفساد} [البقرة: 200].
وقوله تعالى: {قالوا إنما نحن مصلحون} جواب بالنقض فإن الإصلاح ضد الإفساد، أي جعل الشيء صالحًا، والصلاح ضد الفساد يقال صلح بعد أن كان فاسدًا ويقال صلح بمعنى وجد من أول وهلة صالحًا فهو موضوع للقدر المشترك كما قلنا.
وجاءوا بإنما المفيدة للقصر باتفاق أئمة العربية والتفسير ولا اعتداد بمخالفه شذوذًا في ذلك.
وأفاد {إنما} هنا قصر الموصوف على الصفة ردًا على قول من قال لهم {لا تفسدوا} لأن القائل أثبت لهم وصف الفساد إما باعتقاد أنهم ليسوا من الصلاح في شيء أو باعتقاد أنهم قد خلطوا عملًا صالحًا وفاسدًا، فردوا عليهم بقصر القلب، وليس هو قصرًا حقيقيًا لأن قصر الموصوف على الصفة لا يكون حقيقيًا ولأن حرف إنما يختص بقصر القلب كما في دلائل الإعجاز، واختير في كلامهم حرف إنما لأنه يخاطب به مخاطب مُصِر على الخطأ كما في دلائل الإعجاز وجعلت جملة القصر اسمية لتفيد أنهم جعلوا اتصافهم بالإصلاح أمرًا ثابتًا دائمًا، إذ من خصوصيات الجملة الاسمية إفادة الدَّوام. اهـ.

.قال الماوردي:

سؤال: فإن قيل: فكيف يصح نفاقهم مع مجاهرتهم بهذا القول؟
ففيه جوابان:
أحدهما: أنهم عرَّضوا بهذا القول، وكَنُّوا عنه من غير تصريح به.
والثاني: أنهم قالوا سرًا لمن خلوا بهم من المسلمين، ولم يجهروا به، فبقوا على نفاقهم. اهـ.
فائدة: في أحكام النفاق:

.قال ابن عطية:

قال أبو جعفر الطبري في كتاب اللطيف في باب المرتد: إن الله تعالى قد جعل الأحكام بين عباده على الظاهر وتولى الحكم في سرائرهم دون أحد من خلقه فليس لأحد أن يحكم بخلاف ما ظهر لأنه حكم بالظنون، ولو كان ذلك لأحد كان أولى الناس به رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد حكم للمنافقين بحكم المسلمين بما أظهروا ووكل سرائرهم إلى الله وقد كذب الله ظاهرهم في قوله تعالى: {والله يشهد إن المنافقين لكاذبون} [المنافقون: 1].
قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه: ينفصل المالكيون عما ألزموه من هذه الآية بأنها لم تعين أشخاصهم وإنما جاء فيها توبيخ لكل مغموص عليه بالنفاق وبقي لكل واحد منهم أن يقول لم أرد بها ولا أنا إلا مؤمن ولو عين أحد لما جَبَّ كذبُه شيئًا. اهـ.

.قال في روح البيان:

قال ابن التمجيد: إن المسلمين لما قالوا لهم لا تفسدوا توهموا أن المسلمين أرادوا بذلك أنهم يخلطون الإفساد بالإصلاح فأجابوا بأنهم مقصورون على الإصلاح لا يتجاوزون منه إلى صفة الإفساد فيلزم منه عدم الخلط فهو من باب قصر الإفراد حيث توهموا أن المؤمنين اعتقدوا الشركة فأجابهم الله تعالى بعد ذلك بما يدل على القصر القلبي وهو قوله تعالى: {ألا} أيها المؤمنون اعلموا {إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ} فإنهم لما أثبتوا لأنفسهم إحدى الصفتين ونفوا الأخرى واعتقدوا ذلك قلب الله اعتقادهم هذا بأن أثبت لهم ما نفوه ونفى عنهم ما أثبتوا والمعنى هم مقصورون على إفساد أنفسهم بالكفر والناس بالتعويق عن الإيمان لا يتخطون منه إلى صفة الإصلاح من باب قصر الشيء على الحكم فهم لا يعدون صفة الفساد والإفساد ولا يلزم منه أن لا يكون غيرهم مفسدين ثم استدرك بقوله تعالى: {وَلَكِن لا يَشْعُرُونَ} أنهم مفسدون للإيذان بأن كونهم مفسدين من الأمور المحسوسة لكن لا حس لهم حتى يدركوه. اهـ.
فائدة: في قوله تعالى: {إِنما نحن مصلحون}:

.قال ابن الجوزي:

قوله تعالى: {إِنما نحن مصلحون} فيه خمسة أقوال:
أحدها: أن معناه إنكار ماعرفوا به، وتقديره: ما فعلنا شيئًا يوجب الفساد.
والثاني: أن معناه: إنا نقصد الإصلاح بين المسلمين والكافرين، والقولان عن ابن عباس.
والثالث: أنهم أرادوا مصافاة الكفار صلاح، لا فساد، قاله مجاهد، وقتادة.
والرابع: أنهم أرادوا أن فعلنا هذا هو الصلاح، وتصديق محمد هو الفساد، قاله السّدي.
والخامس: أنهم ظنوا أن مصافاة الكفار صلاح في الدنيا لا في الدين، لأنهم اعتقدوا أن الدولة إن كانت للنبي صلى الله عليه وسلم فقد أمنوه بمبايعته وإن كانت للكفار فقد أمنوهم بمصافاتهم، ذكره شيخنا. اهـ.

.قال أبو حيان:

والذي نختاره أنه لا يتعين شيء من هذه الأقوال، بل يحمل النهي على كل فرد من أنواع الإفساد، وذلك أنهم لما ادعوا الإيمان وأكذبهم الله في ذلك وأعلم بأن إيمانهم مخادعة، كانوا يكونون بين حالين: إحداهما: أن يكونوا مع عدم إيمانهم موادعين لرسول الله صلى الله عليه وسلم وللمؤمنين، والحالة الأخرى أن يكونوا مع عدم إيمانهم يسعون بالإفساد بالأرض لتفرق كلمة الإسلام وشتات نظام الملة، فنهوا عن ذلك وكأنهم قيل لهم: إن كنتم قد قنع منكم بالإقرار بالإيمان، وإن لم تؤمن قلوبكم فإياكم والإفساد في الأرض، فلم يجيبوا بالامتناع من الإفساد، بل أثبتوا لأنفسهم أنهم مصلحون وأنهم ليسوا محلًا للإفساد، فلا يتوجه النهي عن الإفساد نحوهم لاتصافهم بضده وهو الإصلاح.
كل ذلك بهت منهم وكذب صرف على عادتهم في الكذب وقولهم بأفواههم ما ليس في قلوبهم. اهـ.

.من لطائف وفوائد المفسرين:

.من فوائد ابن عرفة في الآية:

قال رحمه الله:
قوله تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ تُفْسِدُواْ فِي الأرض}.
هذا القول واقع فيما مضى ودائم في المستقبل، ودوامه محقق ولذلك دخلت عليه إذا لأنه من باب تغيير المنكر فهو واجب.
وحذف الفاعل قصدا للعموم والشيوع في القائل ولأن القائل عظيما أو حقيرا لا يقبلون منه.
وفائدة ذكر المجرور وهو في الأرض التنبيه على أن إفسادهم عام في الاعتقاد الديني وفي الأمر الدنيوي، والفساد يعمّ في جلب المؤلم ودفع الملائم شرعا.
قال ابن عطيّة: وإذا ظَرف زمان، وحكى المبرد أنها للمفاجأة نحو: خرجت فإذا زيد، ظرف مكان لتضمّنها الجهة، وظرف الزمان لا يكون إخبارا عن الجثة.
قال ابن عرفة: وتقدم لنا إبطال كونها ظرف مكان لأنه يلزم عليه مفاجأة من بالمشرق لمن بالمغرب ولا يلزم ذلك في الزمان.
ابن عطية: وقال سلمان الفارسي لم يجئ هؤلاء بعد.
ابن عطية: ومعناه لم ينقرضوا بل يجيئون في كل زمان.
قال ابن عرفة: والقول: إما لفظي وهو الأظهر، وبعيد أن يكون نفسيا ولا يمتنع لاحتمال أن يخلق الله جل جلاله في خواطرهم النهي عن ذلك وعدم امتثال ذلك النهي.
وأورد الزمخشري سؤالا قال: كيف يصح أن يقام مقام الفاعل جملة الجملة لا تكون فاعلة؟
وردّه ابن عرفة بأنّهم نَصّوا في باب الحكاية على عمل القول في الجملة المحكية مثل: قال زيد إن عمرا منطلق.
واحتجوا بقوله:
مَتَى تَقُول القلص الرّواسما ** يدنين أمّ قاسم وقاسما

فإذا صح تعدي القول إلى الجملة على المفعولية صح إقامة ذلك المفعول مقام الفاعل. اهـ.